مازالت تقف في صدر البهو ..
( بسمة ) ..
قمر الأحلام المسافر , وملاك الجنة المستحيلة ..
شعرها يتطاير خارج حدود التوال والألوان والفرشاة , عيناها قصيدة حزن بلا دموع , ثغرها الباسم يفيض زهورا وحنينا , وثوبها البنفسجي يتمدد أسفل تفاصيل اللوحة القائمة منذ عام أو أكثر في ذات المكان ..
تسرق _ بسمة ) نظراتي في مكانها الذي تستوطن الفوضى ما حوله بوضع اليد , وتعربد في أنحائه البوهيمية في أشنع صورها الإنسانية , الأمر يشبه عرضا خاصا للوحة الموناليزا وسط أكوام القمامة المتراكمة في نهاية الشارع الذي اسكنه في ( شبرا ) , لو كنت بارعا في التشبيه ..
فتح لي ( يوسف ) الباب أخيرا – لابد انه هو – بعد أن أعياني الطرق ؛ وكانت يدي تتسلل إلي جيب بذلتي في طريقها إلي المفاتيح .. طالعني ( سيلويت ) خال من الملامح .. شبح تنبعث الأضواء من خلفه لتعشي عيني , فأغلقهما ثم افتحهما..
يطالعني الضوء من جديد , ولكن بلا شبح ..
ادلف وأغلق الباب من خلفي , ابحث عنه في أنحاء البهو الواسع فتطالعني بسمة ( بسمة ) من فوق اللوحة .. تقشعر في بدني الذكريات ,وتصحو الأساطير من سباتها الإجباري في معترك الحياة اليومية ..
منذ عام أو أكثر لم يكن الحال كالآن ..
منذ عام أو أكثر كنا نعاني أفراحا أكثر , ونجتر أحزانا اقل ..
اسمع صوت الملعقة تدور في كوب , ( يوسف ) في المطبخ إذن يرمق بعينيه الذابلتين الدوامات الحمراء التي تثور علي شطح الشاي الساخن , وهذه رائحة النعناع التي لا أخطئها ..
تسلبني براعة التصوير في منتصف البهو من نفسي , أتوه في دقة الملامح ورهافة الإحساس , ( يوسف ) هو ذلك المزيج الذي لم أكن أتصوره أبدا بين الفنان ورجل العدالة ..
حتى وان كان قد تخلي عن الثانية , ترفض الأولي أن تتركه لحريته المطلقة , الفن يختار الفنان والعكس ليس صحيحا مهما حاولنا أن نقنع أنفسنا بإمكانه ..لقد كان الفن أنانيا وقرر أن ينفرد ب ( يوسف ) في هذه المنطقة النائية عن الزحام والناس , وكان الثمن ..
حياة ( بسمة ) ..
قبل أن أتعثر في أحجار النوستالجيا , وقبل أن امتطي فرس خيالاتي المجنح إلي دروب الماضي القريب , رايته أمامي آتيا من صوب المطبخ , وكفاه المرتجفتان تحملان صينية الشاي بالنعناع ..
_ كنت اعرف انك ستأتي !
العينان وردتان بلديتان قاومتا العطش طويلا , لكن شعاعا بعيدا من غروب لم يتم سطع فيهما , وبدد قليلا من سواد الهالتين المحيطتين بالمجرين ..الوجه فقد نضارته , والشعر يكسو مساحات شاسعة منه بغير انتظام ..القامة مازالت طويلة ممشوقة لكن الظهر اعتوره بعض الانحناء بغير ذلة , والنحول حول الجسد الرياضي المشدود بالعضلات إلي أطلال لا يبكي عندها احد ..
نوستالجيا ..
لاذ الصمت بي , وران الجمود ..
أحاول استيعاب الكلمات القليلة التي ذكرها , لم اعتد أن يكون هو البادئ بالحديث , دائما أنا أحاول أن أجره إليه جرا , وفي الغالب افشل ..
_ تعرف ؟!
هو كل ما فكرت فيه , إنها المرة التي أتي فيها من اجل ..
_ قضية!!
ألقاها في وجهي كالحجر , لكنها لم تجرحني , فقط جعلتني أبدو كالأبله وأنا اسأله بعد صمت زاده بخار الشاي المتصاعد رهبة :
_ كيف عرفت ؟!
أكاد اقسم – لولا شكي في إمكانية حدوث هذا منطقيا – انه ابتسم , وهو يشير إلي ( بسمة ) المطلة في سعادة من بين الملامح التي شكلتها أصابعه :
_ هي أخبرتني !!
انظر إلي علب الأدوية القريبة فوق المقعد الذي انتزعت أمعاؤه , مضادات اكتئاب ومضادات هلاوس ومضادات ذهان , جبل من الأقراص التي وصفها له صديقنا الثالث ( هاني مراد ) , الطبيب النفساني نصف الشهير لاعتبارات السن ليس إلا ..
وتسلبني الحيرة صوابي ..
( يتبع )