تأخر يوسف ولكنه ظهر في النهاية ...
استغرق الأمر قرابة النصف ساعة ليجتمع الكل بما فيهم ( سوسن ) و ( مبروكة ), ونصف ساعة أخري قضاها الانتظار في انتظار ( يوسف ) ..
( مادي ) كان أول الآتين بتجهم في ملامحه الكبيرة يفوق الوصف , ثم أخته وخادمتها من جهة المطبخ , الأولي تضحك وتبكي في أن والثانية تربت علي كتفها في صمت يبعث علي الرعب , ثم هبطت ( نيللي ) في خطي فينوسية ساحرة وقد بدلت ثيابها المنزلية بآخري سوداء عذبة الذوق ؛ تشكو من ضياع هاتفها المحمول ..
أقسمت لها بأغلظ الأيمان إنني رايته منذ قليل فوق المنضدة المجاورة للسرير , فقالت أنها قلبت الغرفة رأسا علي عقب بحثا عنه دون جدوى , أخبرتها ألا تقلق ومازحتها بأننا لا نعثر علي الأشياء عندما نريدها لكنها تطاردنا بمنتهي السخف عندما لا نريد , لكن الحزن كان اكبر من محاولتي البائسة ..
هل كنت احلم بتكرار تجربة ( يوسف ) المأساوية ؟!
ولم لا ؟!
أتي بعدها ( شكري راشد ) من جهة الحديقة , وتجنب النظر إلي أي من الجالسين منتحيا بنفسه مكانا قصيا ؛ كرسيه الأول أمام القبر الأنيق ..
ومضي الوقت ..
مضي الوقت ..
الوقت ..
واتي ( يوسف ) أخيرا من اللامكان , قابضا بين أصابعه علي الهاتف المحمول الخاص بنيللي !!
لاحظت الدهشة علي وجه ( نيللي ) , والامتقاع علي وجه ( شكري ) , و ..
_ لقد عرفت القاتل !
صمت يقطعه نهر الترقب السرمدي ..
_ انه أنت يا سيدتي !
ويشير نحو ( نيللي ) التي تتبدل ملامحها رويدا رويدا ..
يتحدث ( يوسف ) :
_ هاتفك أخذته من غرفتك دون أن تشعري , فمازلت أتمتع بخفة اليد والفضل لفرشاتي والواني ..
يفغر ( شكري ) فاه ذاهلا :
أنت الذي حادثتني ؟!
يومئ ( يوسف ) برأسه إيجابا :
_ لقد طلبت أخر الأرقام المدونة في سجل المكالمات الصادرة , وصادف توقعي أن يكون هو رقمك يا سيدي , أنت شريكها في الجريمة ولو بقلبك ..
يهتف ( مادي ) مزمجرا :
_ كنت أتوقع هذا !
تهذي سوسن :
_ أمي فعلتها ..
أسال :
_ لكن .. كيف حدث كل شئ ؟!
يتحدث ( يوسف ) ويستفيض :
_ هناك علاقة خفية بين ( شكر ) و ( نيللي ) , علاقة كشف ( رأفت ) خيوطها في الغالب , وفي الغالب أيضا كانت مثار الشجار الذي تم الليلة .. إن ( نيللي ) شابة , و( شكري ) شاب , و ( رأفت ) كهل في منتصف المسافة بينهما , لذا كان لابد من إزالته بأي طريقة حتى يخلو الطريق بين القلبين , مع نزع الاعتبار أن ( رأفت ) صاحب فضل عظيم علي كل منهما , فالعاطفة لا تعرف اعترافا بالجميل ..
تشحب ( نيللي ) , وينتفض ( شكري ) , ويتابع ( يوسف ) :
_ كل شئ كان مخطط له منذ البداية , الحفل والشجار والجريمة , وكبش الفداء ..
يتابع :
_ المعادلة بسيطة , يتم قتل ( رأفت ) , يتم اتهام ابنه بقتله , ابنته معاقة ذهنيا , يذهب الميراث الهائل للزوجة التي سوف تتزوج بـ ( شكري ) ليحافظ علي أموال الفقيد وينميها أكثر وأكثر .. تمثيلية عيد الميلاد , والشجار بين ( رأفت ) وكل من ( شكري ) و ( مادي ) , هذه هي الخطوة التمهيدية .. يخرج الجميع ويخلو الجو لـ ( نيللي ) , وبصفتها راقصة بالية سابقة لن يصعب عليها أبدا أن تتسلل إلي غرفة الابن وهو غائب , تربط الحبل في إفريز نافذته وتهبط إلي غرفة المكتب أسفلها , تغرز السكين في عنق زوجها , وبعد أن تخفي القفازين أسفل نافذة المكتب _ إمعانا في إثارة الشكوك حول الابن _ تعود لغرفتها من نفس الطريق , وتدعي الغفو والنعاس .. تكتشف العجوز النوبية الجريمة ويبدأ كل شئ في السير حسبما خطط له ..
يعتريني الذهول :
_ خطة عبقرية ..
تصرخ ( نيللي ) أخيرا :
_ هراء , أنت لا تملك أي دليل علي ما تقول ..
يرفع ( يوسف ) الهاتف المحمول ويخبل إلي انه يريد الابتسام :
_ بل املك دليلا قويا بعض الشئ ..
يبهت ( شكري ) :
_ المكالمة ..
( يوسف ) :
_ في هذه الأجهزة النقالة الحديثة هناك خاصية تسجيل بعض الدقائق من المكالمات الهاتفية , وهو ما تم بيني وبين ( شكري ) منذ دقائق قليلة ..
تتسع عينا ( نيللي ) :
_ هل قلت شئ ؟!
يهتف ( شكري ) مفزوعا :
_ كان رقمك واضحا .. لم يتحدث فظننت انك خائفة , وهكذا ..
تصرخ فيه بوحشية :
_ اخرس ..
أقول زافرا :
_ بهذا انتهي كل شئ ..
ونقضي بقية الليلة حتى الفجر في محاولة لمنع ( مادي ) من الفتك بالقاتلين ..
********************
عودة إلي السادس من أكتوبر , الفجر يصحو علي جبين ( بسمة ) الوضاء ..
أقف خلف ( يوسف ) واتامل ملامحها بعينيه , يمضي الوقت طويلا ويولد اليوم علي أعتاب الشمس ..
_ أشكرك يا صديقي ..
أقولها وتضيع في فضاء العبث , ولا نهائية السكون ..
يتوحد ( يوسف ) مع اللوحة , وينبعث الشعاع من أفق المستحيل البعيد ..
_ ألا تريد شيئا مني ؟!
المح ظل الابتسام إياه فوق ملامحه , يجاهد لكسر القشرة والقفز علي السطح بلا جدوى ..
حياة تختنق في رحم الموت , وأمنيات ..
يتركني واقفا ويدلف إلي الموت , فأتراجع ..
أغلق الأبواب خلفي , وأطفئ الأنوار غير الضرورية , افحص صمامات الغاز ومحابس المياه من باب الاحتياط , ثم تحتويني خنفسائي الصغيرة ..
امني نفسي بفراشي الوثير بعد ليلة مضنية , وأنا استمع إلي نغمات الجاز المنبعثة من المسجل ..
وتحتويني كهرباء النشوة ..
( تمت بحمد الله )